نادين قورديمر : للكلمة موقف

نادين قورديمر : للكلمة موقف

 

عيون الإنسانيين ترى العدالة كياناً نصفه شجرة مثمرة ونصفه امرأة، يزهر، ويطرح أجيالاً تدافع عن إنسانية الآخر وحريته. في عام 1920م رحلت أولف شارينير مؤلفة رواية قصة مزرعة أفريقية، والتي كتبت لأجل حق الحياة لكل الشعوب، ليكون ميلاد نادين قورديمر بعد رحيل أولف شارينير بثلاث سنوات، وكأن ميلادها كان لإكمال مسيرة نضالية لأجل الأطفال والشباب الذين حملوا بأيديهم الداكنة لافتات كتب عليها (سوف يروي دمنا شجرة التحرير) وروت معهم شجرة تحريرهم من الظلم.
نادين قورديمر، هي رمز أدبي شاهق في عالم الإنسانية، قاصة وروائية ومسرحية وذات فكر إبداعي مناضل.
لم تختر نادين قورديمر أن تكون روائية ثورية ولا سياسية كما وصفت ذاتها (لست سياسية بطبعي، ولا أعتقد لو أنني عشت في مكان آخر كانت ستعكس كتاباتي السياسة كثيراً).
كان قدر نادين قورديمر أن يكون ميلادها ونشأتها في أرض سُرقت من أهلها، أرض جنوب أفريقيا، وشكل هذا القدر إحساسها الإنساني لتدافع عن حقوق أهل الأرض الأصليين، وعن حرياتهم وهويتهم الأفريقية، حملت معهم أمنياتهم التي عانت طويلاً من الظلم والاضطهاد ممن تنتمي نادين قورديمر إليهم - الأقلية (البيض) الأقوياء.
تنتمي الكاتبة نادين قورديمر عرقاً إلى الأقلية البيض الذين هاجروا إلى جنوب أفريقيا، أما فكراً وروحاً فهي تنتمي إلى الإنسانية والعدالة والسلام، ولدت في مدينة سبرنغس، بمقاطعة أكسوتنغ، بجنوب أفريقيا عام 1923م، وهي ابنة لمهاجر يهودي من لاتفيا وأم إنجليزية، وقد ظهرت حكاية هجرة اليهود إلى جنوب أفريقيا في رواياتها.
نشأت نادين قورديمر في أسرة متفتحة، ودرست في مدرسة كاثوليكية، وكانت منذ طفولتها شغوفة بالقراءة. وجدت قورديمر أنها لا تستطيع الغوص بعمق في حياة ومجتمع جنوب أفريقيا دون أن تضرب بقلمها على وتيرة العنف الذي يمارسه المهاجرون الأقلية البيض ضد سكان البلاد الأصليين والملونين، فكان التمييز العنصري موضوعاً رئيساً لكتاباتها الروائية والقصصية ومؤلفاتها. أتى الحزب الوطني الذي تمثله الأقلية البيض إلى السلطة في جنوب أفريقيا عام 1948م، وبدأ يتزايد التمييز والفصل العنصري ضد المواطنين الأصليين، رأت نادين قورديمر ذات العشرين ربيعاً كل ذلك بعينيها، ولم تستطع تجاهله أو السكوت عنه، وفي منتصف السبعينيات من القرن الماضي أعلنت نادين قورديمر علناً دعهما لحركة التحرير والهيئات الثقافية والأحزاب والاتحادات المرتبطة بها مثل اتحاد كتاب جنوب أفريقيا، كانت قورديمر قريبة من محامي دفاع مانديلا، وقد ساعدته في تحرير عبارته في محاكمته، وكانت من الشخصيات التي طلب مانديلا أن يراها عندما أطلق سراحه عام 1990م.
منعت بعض روايات قورديمر، منها: عالم البرجوازية الراحل، وعالم الغرباء، وابنة بيرقر من قبل حكومة جنوب أفريقيا، وهذا جعلها كاتبة مقروءة في الخارج أكثر من الداخل.
توجت قورديمر في عام 1991م كأول كاتب من جنوب إفريقيا يفوز بجائزة نوبل للآداب، وقد أعلنت الأكاديمية السويدية فوزها بالجائزة وذلك (لكتاباتها الملحمية العظيمة التي تركز على آثار العلاقات العرقية في بلادها).
كتبت نادين قورديمر في سن مبكرة ونشرت أول قصة لها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وكانت قصة للأطفال، وفي السادسة عشرة من عمرها نشرت أول قصة للبالغين.
لم تترك كتابات قورديمر جزءاً من جنوب أفريقيا لم تكشفه، فكشفت المناطق المزدحمة، والمزارع، والشوارع، ومدن الأكثرية الأفارقة، والملونين، مرت بالأحزاب، كشفت طقوس حفلات الأقلية البيض.
قورديمر والقصة القصيرة
عُرفت نادين قورديمر ككاتبة قصة وسميت سيدة القصة القصيرة، وقد نشرت مجموعتها الأولى وجهاً لوجه 1949م، واستمرت في نشر قصصها القصيرة حيث كانت تؤمن بالقصة القصيرة (القصة القصيرة شكل عصرنا الأدبي).
أصدرت قورديمر 21 مجموعة قصصية منها: ليس للنشر، رفقاء ليفينقستون، عناق جندي، أوقات الحياة 2011 مجموعة ضمت قصصاً من بداياتها.
وكتبت نادين قورديمر خمس عشرة رواية ونشرت روايتها الأولى أيام كاذبة عام 1953م، وهي رواية سيرية، وتبعتها برواية عالم الغرباء، مناسبة للمحبة، عالم البرجوازية الراحل، ضيف شرف. وقد نالت روايتها البيئي جائزة البوكر 1974م، وتعد من أعظم أعمالها، واعتبرت قورديمر احد أعظم الروائيين السياسيين في وقتها. وتتناول روايتها الرجل الأبيض الثري الصناعي والذي يمثله ميهرنغ والذي يكشف بتفاصيل دقيقة صراعاته، واستغلاله كل شخص بسلطته وسعيه بدون وعي لتدمير جانب من الثقافة الأفريقية الأصيلة.
أما رواية ابنة بيرقر 1979م، فقد منعت قبل حكومة جنوب أفريقيا، وهي رواية سياسية تاريخية تتناول نشطاء مناهضين للتمييز العنصري يحاولون قلب نظام الحكم، وتقدم الرواية تاريخ النضال ضد التمييز العنصري، وقد أشارت الرواية إلى أحداث حقيقية وأناس حقيقيين شملت مانديلا وانتفاضة سويتو 1976م. ونالت الرواية الكثير من إطراء النقاد ووصفت (بأنها أكثر رواية سياسية مؤثرة)، وقد فازت عام 1980م بالجائزة الأدبية لوكالة الأنباء المركزية.
أما روايتها أناس يوليو 1981م، فقد كانت نتيجة للوضع المتفاقم في جنوب أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي، وكانت تحث إلى إعادة النظر في العلاقة بين السيد والخادم الموضوع الذي بنت عليها أكثر أعمالها.
وتناولت قورديمر موضوع الحب بين الأعراق في روايتها رياضة الطبيعة 1987م. ولم ينته إبداعها بانتهاء التمييز العنصري عام 1994م، بل أظهرت بزوال الفصل العنصري قوتها الإبداعية والفكرية في موضوعات جديدة، متحدية قلق كتاب بلادها والذي ينقصهم الموضوع، وكتبت رواية مسدس المنزل عام 1998م، وتناولت من خلالها ارتفاع معدل الجريمة في وطنها.
أما روايتها الشاحنة 2001، والتي فازت بجائزة كتاب دول الكومونولث لكتاب أفريقيا عام 2002م، فقد كشفت قورديمر قضايا جديدة وهي قضايا الهجرة والفساد، واستمرارية العزلة، وتناولت علاقة جوليا الفتاة ذات العرق الأبيض بعبدو أو إبراهيم الموسى، المهاجر العربي الفقير وغير الشرعي قي قانون الهجرة.
يجد القارئ في روايات نادين قورديمر أنها استطاعت كتابة سرد يمثل نسيجاً معقداً للأصوات الساردة التي تقدم الحوار السياسي والوثائقي والأفكار السرية لشخوصها.
كتبت نادين قورديمر، مسرحية واحدة في بداياتها وهي الدائرة الأولى 1949م، كما قامت بتأليف كتابين: في المناجم 1937م، حياة تحت التمييز العنصري 1986م. وألفت بالتعاون مع ابنها هوقو كتابين توثيقيين هما: اختيار العدالة: آلان بوساك، وكتاب برلين جوهانسبورغ: الجدار وحاجز اللون.
حصلت نادين قورديمر على جوائز من عدد من الدول منها: أمريكا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا المكسيك، فرنسا، وحصلت على أكثر من خمس عشرة درجة دكتوراه فخرية من عدد من الجامعات العريقة في العالم.
وكأن للكاتبة المناضلة نادين قورديمر موعداً مع شهر يوليو، ففي يوم 13 يوليو 2014م رحلت نادين قورديمر، عاشقة الحرية، وودعها أناس يوليو، وأطفال سويتو، والمغتربين، ومحبو الإنسانية في العالم، ونثر طائر الكركي الأزرق حولها ريشه الناعم كما يكرم الأبطال وغنى لها:
كانوا نحن
إنهم نحن
أطفال سويتو
آنقا، كاقيسو، ألكسندرا، قوقوليثو، نيانقا.

التعليقات

أترك تعليق