بين تلال و هديل

بين تلال و هديل

 

 

ين تـلال قرية أمـي
وهــديل حـمـام مكة


المدن بالنسبة لي بشر يحبون ،ويشعرون ،ويكرهون ، ويظلمون ، هكذا آمـنت كما آمنت أمي بذلك ، وهنا ك مدن رقراقة ، ومدن صلدة ، ومدن طاردة للغرباء ، ومدن ودوده ،وهناك مدن تورق ضياء ، ومدن تشتهي العتمة .
قدري أنا أن لا اكون ابنة مدينة واحدة ، وكأن كل مدينة مررت بها تريد أن تحفر لها وجودا في ذاكرتي ، وتريد أن أخبر العالم عن أهلها عبر مشاكسة كتاباتي .
وأراد القدر أن تكون مدينة الثقافات المتعددة ، واللهجات المتعددة ، والملامح المتعددة مكة المكرمة مسقط صرختي الأولى التي هداتها قبلة أمي الحانية لوجنتي الصغيرتين في يوم صيفي .
تقف أمام عيني مكة بنقوش رواشينها ، بملامح جارنا عم شريقي ، وهديل حمامها الذي أتأمل وداعته الباذخة في ساحة الحرم ، مطرزات مساند مجالسها بيوتها الفاتنة ، طعم شريكها الحلو . تـعبر بي اغصان اشجار اللوز المتدلية من سور بيت جيراننا الكبير ، والتي تنادي شقاوتنا لنقتطفه ، صـلاة (المشهد) ، وشذى العود الأزرق الذي يلف الطرقات ، الحلوى التي تتلقفها يدي الصغيرة وايادي اقراني الصغار ، اصوات التلبية القادمة من امكنة مقدسة تحتشد بالبياض ، بدموع البشر واسئلتي الصغيرة المتدفقة على أمي لماذا لا يسكنها احد ؟.
اترك مكة وأنا طفلة العاشرة ، ويأخذني القدر إلى بلدة في الجنوب هناك ، حوانيتها صغيرة ، طرقاتها ضيقة ، حياتها بسيطة ، تقاوم هوية القادمين إليها ، بلدة تستند على أثل وادي عريق ، انها بيشة كنت الحق بها اسم الفيحاء ، اردت أن تكون فيحاء ، وبدأت يتفتح برعم حرف عذب في ، ليكون صدفة قدرية أن التقي بأمنياتي بقرية تحمل اسم الحرف ، فتستفز في الف حرف وحرف وأنا أمر بواديها كل صباح ، وتبدأ مشاكستي لها ، وشغب فكري واسئلتي الكبيرة التي تجاوزت أسطح منازلها الصغيرة ، اينعت وبيشة كما هي تلتف بأغلال ركود ، فـتركتها ميممه نحو الماء والحياة والرقص والحلم ، نحو حكايات السفن ،واغاني الصيادين ، وضحكات الحوريات ، إلى المنطقة الشرقية ، وهنا اورقت كلماتي ازهارا ملونة ، واصبحت لي حروف كثيرة ، وأكثر من لغة ، استطالت قامة فكري واستوت أمامي المرافئ.
هناك أيضا قرية أمي المختبئة في جنوب متدثرة بالمروج ، وبصباحات اغنيات امي ورفيقاتها الجميلات ، هي رفيقة المطر ، تشبه قرية أفونليا التي احتوت اليتيمة آن ، تسكنني قرية أمي ، تمد يديها الي ، تأخذني إلى تلالها ، ومراعيها ، وصوت القهبي ، وثغاء صغار الشياه ،تلك القرية التي احبها ، فكل صباح كانت تسكب امي لي منها رحيق حكاياتها ، قبل أن اسير بخطاي إلى مدرستي . وتطل برأسها علي وتنساب بين نصوصي تحمل معها جبالها العنيدة ، فتجد كبرياء كلماتي .
الاعب تلك المدن التي اعرفها ، وتلاعبني ، تظهر ، تتوارى ، تبتعد وتقترب ، تتسع تارة ، وتضيق تارة فلا تصبح إلا مدينة واحدة ، لا بل مـدن تتناسل تحمل أصوات أهلها ، وقسمات وجوههم ، ولكن تبقى هناك مدن أخرى بعيدة تدعي أنها تعرفني ، وتحبني فاصـدقها ، وامتلئ برغبة رؤيتها .



نشرت هذه  المادة في ملف ادباء يحكون عن مدنهم بمجلة الجوبة  ,عدد صيف 1436-2015  -العدد 48

 

 

 

 

التعليقات

أترك تعليق