حقيبة أمي .

حقيبة أمي .

 

هي لاتعرفني، ولكني أعرفها جيداً، ويعرفها أهل قريتي التي يمر بها الوادي، إنها الرياض، يملأني شعور اً بأنها ستبقى المدينة التي لن يمتد بيني وبينها أي مشاعر وله في يوم من الأيام، رددت ذلك في أعماقي ونحن نقترب منها. للرياض في ذاكرة طفولتي كلمات أبي ودموع أمي، كثيراً ما ردد عليها كلمة دعواتك وهو يودعها حاملا في يده الكبيرة حقيبة سفره البنية، تاركاً لها بعض الوصايا بشأن الاهتمام بنا، وبالمزرعة، ومايتبعها من كائنات الله، ولاينسى أن يذكّرها بجدتي وعماتي وهو يضغط على يمينها بطريقة حانية، فتتساقط دموع عينيها السوداوين على وجنتيها وتمسحها بطرف شيلتها .

تعبر بنا سيارة أبي الصالون البيضاء شوارع الرياض، أمي تجلس بجواري في المقعد الخلفي،في حجري تنام حقيبة أمي، امسك بيد أمي اخبرها بأننا وصلنا، وأنه أصبح يفصلنا عن الحرف مسافة بعيدة تردد: الحمد لله، وهي تمسك على رأسها، تبحث عن حذائها، اساعدها في ذلك تترصدني لحظات من طفولتي وأنا احتضن حذائها في حجري الصغير، تلملم عباءاتها، أتاملها بإعجاب وهي تلف شيلتها على شعرها بيدها اليمنى، وتدخل طرفها عند صدغها الأيمن، وأنا طفلة كنت أحاول أن اقلدها ولكني لم استطع، اردد لعماتي أمي فنانة، فأرى انزعاج في أعينهن، اتجاهله بإرادتي وامتلئ بزهو..

جميعنا مجهدون، كانت رحلة طويلة ومتعبة، كنت طوال الرحلة أحاول أن أبدد أفكار معتمة فانثر ذكريات ندية ترسم الابتسامة على شفاهنا جميعا، وخاصة أمي، ضحكت بعمق، وظهر سنها الذهبي عندما ذكرتها بحكاية بديّع الذي رمى شماغه وعقاله، تاركاً حراسة المدرسة،عندما علم بأن المديرة استاذة ندى الحجازية، وليس ذكراً وهو يردد بصوت عال: ياوي مرة تامرني .

- شوفي يابنتي عسى مانسيت مفتاح المخزن معي في الشنطه، لأنهم بيحتاجونه.

هناك في البيت اختى الصغرى وزوجة أخي الأوسط وأبي . .

افتح حقيبة أمي تتصاعد رائحة عطرها الخاص، استنشقها بعمق، بدأت حكايتي معها، افتح حقيبتها لا اجد المفتاح، اخبرها بذلك،احتضنها، تنساب ملامح وجهي الصغير ذو الخدين المتوردين، شعري الأسود المجعد الكثيف،وأنا اقف بجوار باب الصالة الخشبي مرتدية ثوباً قصيراً زاه بحزام دائماً مايحل،وبنطلون قطني أبيض ضيق من الكاحل، وصندل أبيض، أحمل حقيبة يد أمي البنفسجية ذات الحلقات الذهبية والجيوب الداخلية الصغيرة.

حقت أمي) قالت لي أمي غصنة صديقة أمي أنني كنت أجمع حروف هاتين الكلمتين بصعوبة، عندما بدأت اتعلم الكلام، وأطلقهما على كل من يقترب من حقيبة أمي، ذات يوم اقتربت إحدى قريبات أبي تمازحني ، محاولة أن تنتزع حقيبة أمي، اصرخ ابتعد عنها احتضن الحقيبة بقوة، تذهب باتجاه غرفة أمي أركض بسرعة وأنا أحمل سنواتي الثلاث بغضب، افتح ذراعي وأضع يداي الصغيرتين على اطار الباب وأردد (لا ، حقت امي) تحاول تبعدني، اصرخ تحملني وأنا اردد (حقت امي).

تثيركلمة (حقت امي) اسئلة عماتي واستهجانهن، ويرددن

* بسم الله علينا.. على من طلعت هذي البنت

ويبدأن يلقين التهم على جينات أهل أمي.

كثيراً ماسمعت كلمة حسوده، ودائما تلاحقني كلمة انانية حتى الآن.

اللون البنفسجي يمر بملابس امي ، وملابسنا أيضاً،وبطانيات الضيوف.

بدأت رحلتنا الى الرياض في اللحظات التي لامست كفوف الفجر سماء الحرف، كانت يد اخي الأوسط النحيل تدير مقود السيارة وكانت اياد تلوح لنا، منها يد أمي غصنة المكتنزة السمراء، تنطلق بنا السيارة عبر المزارع المتلاحمة،أبتعدت اغصان النخيل رويدا رويدا، وغابت عنا نوافذ غرف بيت أمي اللؤلؤيه، كما غاب السياج الذي يطوق مزرعة ابي، وباب مزرعتنا الأزرق الكبير الذي بدأت اشعة الشمس في تقشير طلائه، ورفض ابي ان يعيد طلائه مرة اخرى، رغم اصراري انا على طلائه وبلون ابيض، والآن يصافحنا المساء، يغني اخي بابتهاج وهو يرتدي طاقيته ويضع شماغه وعقاله اغنية شعبية وتمر ببالي أغنية:

الا يا أهل الرياض أول غرامي

أمي تردد بابتسامه: أول غرامي .

طوال الرحلة مررنا بايام عبرت وبينهما أمي، قلائدها الفضية صرختها التي هزت المزرعه عندما رحل أبيها، وانا واخوتي نركض وراءها، تفاصيل ثوبها البنفسجي الأنيق المزين بخيوط ذهبيه، امتزجت ببنفسج ثيابها كنت أراها وهي تطويها بعناية فافعل مثلها، استيقظت ذات صباح لاجدني وحدي من بين أخوتي ممتلئة بتفاصيل أمي، ورائحة شيلتها، خواتمها، وسائدها، وشراشف ضيوفها المعطر بعطر الكولونيا الفرنسي .

ترتيبي الثانية بين ثلاث بنات فأجا مخاض ميلادي أمي وهي تدخل صغار الأغنام ذات مساء إلى كرسها. لم أكمل في رحم أمي تسعة أشهــر، قبل ميلادي بأيام سمعت أمي صوتا في المنام يردد اسم زينة ثلاث مرات، فاسمتني زينة وابعدتني عن أسم أم أبي الذي يشي بالغرابة ..

نصل إلى بيت عمي ذي البوابة الرمادية المقوسة والزخارف النجمية. وسط استقبال عمي الحارلنا، سمعت امي تردد \\\\\\\\\\\\\\\"يالبي الحرف \\\\\\\\\\\\\\\" ، تلك الليلة قدمت أمي لأسرة عمي هداياها كرتون تمر برني، وقارورة عسل، وسطل سمن صنعته أمي بيديها ،وفاحت رائحته الشهية قبل مجيئنا بيومين في أرجاء البيت ..

ملامحي لاتشبه ملامح أمي كثيرا، ولكن مشيتي تقترب من مشيتها، أيضا يديها عندما تشبكهما تشبه يداي، لم أرضع من ثدي أمي إلا سبعة أشهر فقط، كنت لا ارضع كثيرا فقط اضع يدي الصغيرة على ثديها، وأدفن وجهي في صدرها وأنام . .

اسبوع مراجعات وفحوصات لابد أن تبقى أمي بعض الوقت هنا في الرياض اخبرنا الطبيب بذلك، كنت أقف خلف الأبواب الزجاجية، ابكي، منعني جنين تخلق في رحمي منذ شهرين من الدخول مع أمي في حجرة الأشعة. لم يأت في الوقت المناسب، أتى رغما عن ارادتي،كما فعل ذاك الذكر الذي لايشاركني الا في اسم سلف قيد اسئلة كينونتي الثائرة لذكر ينتمي إليه ..

اقف وراء الباب صداع يعصف بي، تنهمر دمعة من عيني، افك رباط غطاء وجهي وامسح دموعي به مرض أمي هزنا جميعا، فجأة تشكو من رأسها، صداع مستمر، ظهر على جسدها بثور حمراء، يملاني هاجس الحسد، وأرى عيون أهل أبي تحدق في بنفسج روح أمي ..

ذات يوم صيفي وأنا لم اتجاوز الرابعة، كنت جالسة على الدكة الاسمنتية الأمامية لبيتنا مع اختى الكبرى بجوار شجرة الليمون الأثيره على قلب أمي، والتي تنثر رائحتها،فيتسلل عبقها إلى البيت، كنت انتظر عودتها وأنا امضغ حبة تمرة، أتت امي غصنة ولكني لم أر أمي معها اقتربت درت حولها ركضت حتى نهاية الفناء ثم عدت سألتها وأنا الهث:

اينا أمي .

 بكت أمي غصنة وهي تحضنني بقوة و تردد كلمات لا افهمها، وكنت أردد سؤالي بالحاح: اينا أمي

وأشير بيدي اليمنى في حركة دائرية استفهامية ..

عندما ظهرت أمي ركضت بفرح، سقطت ثم نهضت و لففت يدي الصغيرتين حول خصرها، وأنا اتطلع إلى وجهها القمري واضحك، امي غصنة لازالت تترقرق في عينيها دمعة عندما تتذكر ذاك المساء .

قالت لي انها كانت تردد: الله يكفينا شر هالبنت وخوفها عليك ياشهرة.

- ماما أنا حوة .

دائماما ازعج أمي بهذا السؤال كل صباح، أمي تجيبني: انت حلوة. أمي ترى ارنبتي انفي الصغيرتين المنبسطتين جميليتين، أنف أمي فينوسي .

امي تغني لي وهي تمشط شعري الأسود الكثيف المجعد .

- زينة ياحلا حلا

لتمشيط شعري حكاية صباحية تبدا بفرشاة بلاستيكة خضراء، تمشط شعري، ثم تضع في يدها كريم تستخرجه من زجاجة كبيرة، تشبه شكل قلب، وتمسحه على رأسي، ثم تمشطني بمشط بني صغير، وتمسح عليه ثم تقسمها نصفين, يداعبني النعاس وهي تضفر ضفائري ثم اغرق في نوم عميق في حجرها.

تلك الظهيرة اربك سؤال تردد في بيت أبي، عن من منا ستذهب مع أمي؟ صمتت اختاي، اجبت بانفعال:

- أنا!

وبقيت في دهشتي من ارتباكهما.

أسبوع آخر أمكثه في بيت عمي، لأول مرة أرى بيت عمي، عمي هو الذي يزورنا، أبي لايحب السفر كثيراً، وامي أيضا، خطوتنا ثقيلة هكذا تردد أمي. افترش بجوار أمي طراحه حمراء، والتحف شرشفا ملونا، استمتع بترتيب ملابسها وشيالها في حقيبتها، نتسامر حتى الحادية عشر، تحكي لي حكاية أول مجيئها إلى الحرف، عندما أتت عروسا يزفها الغيم، حدثتني عن رفض أهل أبي لها، ومكائدهن لها ، فقد حطم أبي حدود أهله، وصعد إلى قرية تجاور شلالا متدفقا بماء الله، وأتى بأمي شهرة بنت أل مرعي، قطفها وردة يانعة من بين حقول التين وأشجار اللوز، فتن بضفيرتها السوداء الطويلة التي تتمايل بغرور على ظهرها، عندما رآها في احد حقول أبيها الوارفة بالذرة ..

تحلق بي في سماء قريتها، كان يزداد بريق عينيها وهي تسرد لي كيف قضى أبيها على طائر الوروار الذي هاجم منحله بشراسه، وقلب موسم الرحيق ..

بعد اسبوعين اعادتني توسلات أمي إلى الحرف بعد ان شعرت بالتحسن، عندما عدت كان المساء يتسلل عبر بوابات البيوت الكبيرة، وكان الصمت يخيم على المزارع. لم تلامس نسائم المساء ذاتي، سمعت الحرف يسألني عن أمي، احيانا يتعاطف الحرف مع أمي ..

قبل أن أصل مزرعة أبي القت علي ذاكرتي بامي، وهي تحكي لي عن شيء من تفاصيلي، وحقيبة امي البنفسجية، اخبرتني امي عندما ارافقها في زياراتها لاحدى الجارات، أو في الولائم التي تلازم (مقلطات) الحرف صباح مساء، اجلس بجوارها واضعة حذاءها وحقيبتها في حجري، تحاول أن تقنعني أن أضع الحذاء في الخارج، فاخرج بخطوات متثاقلة،واضعة في مدخل الباب، ارتبهما بجوار بعضهما، وتبقى عيناي الصغيرتان تراقبهما،اقفز عندما أرى أقراني البنات يحاولن لبسها، ثم أعود واتذكر حقيبتها من سيحرسها!. لازال الجميع يتذكر عندما القيت زجاجة حليبي من يدي ,وأنا أرى أمي غصنة تحاول الجلوس على حقيبة أمي، ركضت بسرعة وجذبتها وهربت بها إلى أمي,  وأنا أتعثر في خطواتي الصغيرة، واردد كلمات غضب ارشق بها أمي غصنة،ثم أركض إلى أمي وأبكي وأنا أمسك بطرف ثوبها واتطلع إلى عينيها بدموعي فتحملني وهي تبتسم ،ولكن لايزال في قلبي الصغير غضب على أمي غصنة .

في الصباح التالي ذهبت إلى بيت أبي، في الطريق رأيت سيارات الوايتات تتجه نحو الاشياب، تابع خطواتي جارنا الثرثار الأعرج الذي كان يهم بركوب سيارته الداتسون والتي امتلا حوضها بحزم برسيم، كان يردد كلمات لم استوعبها، اعتقد أنه يرحب بي، وانا اقترب من بوابة مزرعة ابي استقبلني احساس مبهم، في الفناء شاهدت أحد قدور أمي ملقى على الأرض، وعلمت أيضا أن أحد خراف أمي الأثيره أكرم بها أبي أحد اصدقائه الحميمين، علقت صرخة في حلقي وأنا أرى أحد أطفال أختي الكبرى، وطفل لاخي يلهوان بحقيبة أمي، امتلات غضبا، رأيت مفتاح غرفتها،ومفتاح باب مزرعتنا، ومناديل وحقيبة نقود صغيرة التي كانت تاسرني وتخرج منها ريالات تكافئني واخوتي بها ، شديتها دفعت الطفل بعنف ، لا ، لم ادفعه أنا ، دفعته طفلة تسكن اعماقي. لاحت لي يد أمي اليمنى ببناجرها النشار ، وهي تحمل حقيبتها النفسجية، وأنا أسير خلفها ثم اتوسل اليها لتعطيني إياها فتهمس لي: قبرتيني زينة!

وتعلقعها على كتفي.

التفت إلى الخلف رأيت عيونا اعرفها، تملاها نظرة تعجب كانوا جميعا يقفون في جهة واحدة،لم يثوروا، لم تتحرك خطاهم، ولكن كانت عيونهم ممتلئة بالإستغراب ووجدت نفسي بمفردي أقف كانت الريح تلفحني،وعاصفة غبار تقترب من سماء الحرف ..

اطلقت صرخة مدوية، اهتز سفح الوادي \\\\\\\\\\\\\\\" فتحت اياد حنطية وسمراء مصاريع النوافذ المغلقة منذ زمن، احتشدت وجوه عديده فيها،اكملت والكلمات تبللها دموعي وانا احتضن حقيبة امي البنفسجية لا، حقت أمي .

 

 

 

 

 

التعليقات

أترك تعليق