تعاطف آخر

تعاطف آخر

 

لم يستطع  نسيم ذاك الصباح  البارد والذي داعب أطراف طرحة عبير الرندي   ،  أن  يثير بهجة في ذاتها ، وهي تدفع  العربة   متجهة نحو البوابة الخارجية ، حيث  تنتظرها سيارة أبو فراج طراز الهايلكس  .  

   كان يملاها شعور ا بالأسى ، فقد تم نقل  زميلاتها  اللواتي شاركنها ارتشاف  كؤوس  غربة و أمنيات  وشدو     .

 من نافذة السيارة تأملت  ملامح أهل البلدة   المتشابهة ، ومنازلها  ذات الأبواب الصغيرة   ، وبرزت لها  أربع  سنوات  لامست  أغصان نخيل مزارعها   .

صعدت السلم  بخطى بطئيه وهي ترفع أطراف عباءتها عن الغبار  الذي افترش  المدخل متجهة نحو  الشقة .

فتحت الباب ، استقبلها  الغبار الذي  تمدد  بارتياح على الطاولات ، والكنب ، ومر بأنامله على إطار وشاشة  التلفاز   ، توعدت في أعماقها رجساء  ،عندما دخلت غرفة النوم  امتلأت  عيناها  بالدموع      ، عادت إلى  الصالة وقعت عيناها على أشرطة الكاسيت  المرتبة    ، انهمرت دموعها بغزارة  ، تعالت الأغنيات التي  أثارت في جسدها وأجساد صديقاتها   الندية رغبات الرقص  في مساءات  حاولن أن يبددن اشتياقهن  إلى ملامح أحبتهن وماء مدينتهن    . خرجت ويديها تمسح دموعها . مسحت  الكنبة الطويلة  و التي اعتادت  النوم عليها  عندما  يداهمها النعاس  ، توسدت يمينها بعد أن وضعت أقراطها اللؤلوية الصغيرة  على الطاولة الصغيرة المجاورة ، وغرقت  في نوم عميق  .

أيقظها جرس الباب ،  كانت الساعة  السادسة مساء ، وكان القادم  رجساء    .

  عانقت  رجساء عبير بوله بعد أن وضعت سلة القهوة والشاي على الطاولة المجاورة  ، وكعادتها أبدت إعجابها بعطرها ، ثم قدمت  اعتذارها  لها  وهي تمسك  راحة كف عبير اليمنى  بقوة  ، بسرعة فكت رجساء أزرار أكمام ثوبها الأسود  ذو النقوش  الحمراء  ،   ورفعتها  إلى ساعديها ، ومسحت الطاولات والكنبة والتلفاز  . بعد  حوالي ساعة  كانت تجلس أمام عبير  ، أبدت عبير  ملاحظتها لوزن رجساء  الزائد  , لتجيبها رجساء بملاحظتها هي الأخرى عن نحفها والذي  ظهر بوضوح   في وجهها ، حدثتها عن البلدة وعن صيفها الذي ضج باهازيج المناسبات  ، وسمت  أبناء وبنات البلدة الذين قدموا إلى أهاليهم  ، ولم تنس ان تذكر تفاصيل موت احد أعيان البلدة    ، وحكت باسهاب عن المهرجان الصيفي الذي أغلق في ثاني يوم   ابتسمت عبير  قائلة

لن تتطور البلدة إلا إذا  فتحت نوافذها لا فكار الآخرين  .

حولت  رجساء نظرها تجاه  التلفاز   . 

  ، ارتشفت عبير فنجان قهوة  وهي  تتناول  حبة رطب حمراء من يمين رجساء ،   والتي  ازدانت بأساور  ذهبية متراصة   وصلت إلى منتصف ساعدها ، توقفت رجساء عن الكلام لثواني , لاحظت عبير نظرات عينيها الحائرة ، جمعت رجساء كلماتها وألقت حكاية تهاني  بشكل متقطع ، ارتعشت عبير .

صرخت  بصوت عال  مرددة  : \\\"  لا ، مستحيل  \\\" ، وهي تضع يدها على فمها . تأملت عيني رجساء  الضيقتين  .  أقسمت لها رجساء ، ودعت على نفسها بالهلاك مؤكدة  بان  هذا ما حدث  . فهي تعلم أن لرجساء  خيال وارف  تزج به  في الحكايات التي تنقلها  ،  ولكن أمامها تحاول أن تخفف من ذلك . وخاصة عندما   تنظر إليها مبتسمة  قائلة

رجساء  كأنها ها لمرة كبيرة شوي .

فترد رجساء وهي تمسح بأصابعها على مقدمة شعرها  المجعد الخفيف  : هم يقولون .

خرجت  الحكاية من فم  رجساء  إلى أعماقها  أجساد أنثوية غضة ترتدي عباءاتها بأياد  مرتعشة  ، صرخات  خائفة  ،  أطفال  كثر يركضون  نحو أمهاتهم بهلع  ، وأصوات نساء  كبيرات اذكروا الله ، . وصوت حارس القاعة يأتي من الخارج عبر  مكبر الصوت اليدوي الأحمر  الذي امتزج بأصوات أخرى معه  يردد  اتصلوا بالشرطة ، وصوت حاد  الإسعاف بسرعة الإسعاف . اقفلوا البوابات  .

دخلت تهاني  مع قريبتيها  تشابكت الأيادي ،  كان صوت غناء  يأتي من الخلف ، وصالة الطعام خالية إلا من تهاني وقريبتيها  والمرأة الحامل وطفليها ، قالوا بأنها   ليست حامل ، دفعنها ،  لا دفعتها تهاني  بقوة فسقطت على الأرض وبدأت تركلها  بقدميها ، والمرأة تصرخ   . توقف قلب المرأة أمام نظر طفليها  ، وتوقفت رجساء  عن البوح  ولم تتوقف عن إرسال نظرة  أقلقتها تبعتها  بقولها :

لم ارتاح لها  ، وأكملت  بعد ثواني صمت \\\"ما ادري يا أستاذة عبير كيف ارتحت لها \\\" .

همت عبير بأن ترد عليها  ولكنها لم تفعل . فالحدث  أربك  تفكيرها  ، وحلق بها في قسمات وجه تهاني  البيضاوي الأسمر  ، ومشيتها البطيئة  .

 اطل صباح من عام  مضى عندما كانت تحمل أوراقاً في يدها متجهة نحو الإدارة ، وكانت  تهاني  تمسك  بحقيبتها واقفة  بجوار  البوابة   الداخلية للمبنى  .  

اقتربت  من تهاني . ولكن تهاني كانت هي التي تقترب منها .

تحدثت تهاني معها كثيرا ، حدثتها عن بيع والدها لها  لرجل يغيب عن عقله كثيرا    . وحكت لها عن  معاناتها  التي تحياها مع عمتها القاسية  وابنها السيئ ، لم تنم عبير تلك الليلة .

شيء ما يقلقها في تهاني ؟ هناك نظرة في عينيها تظهر من فينة إلى أخرى .

سالت عن سكن   تهاني لم يخبرها احد .   طردت ذاك الشارع  الذي يتحدث عنه أهل البلدة عن مخيلتها  .

. صوت إحدى صديقاتها  لا تصدقيها   . تجاهلت أصواتاً كثيرة .

  مر بذاكرتها ملامح ذاك المساء الذي  أفزعها ، وارهب  صديقاتها  ، الشقة المبعثرة  ، اختفاء هاتفها النقال  وساعتها  الذهبية  ،   وتسجيل ما حدث ضد مجهول . بعد أيام نما  إلى مسامعها   دخول  فتاة سمراء تعرج قليلا إلى الشقة .

مرت بها تهاني ،  ومر بها فصول التقوية الصباحية التي  تحاول أن  تعالج غيابها  المتكرر .

في نهاية كل شهر  تدس في يد تهاني  مبلغا من المال  ،  وهي تمسح عن جبينها  قطرات عرق  ، وتعود  متعبة  في ذلك اليوم     .  

اتسعت  تهاني   في  كلماتها ، تسرد على صديقاتها  في الشقة حكايتها ، وتخفي حكايات أخرى  تثير  أسئلة  في أعماقها  وتحاول أن تبحث لها عن أجوبة  .

   في صباح اليوم  التالي  سارت على الممشى القريب  من الشقة ، مرت ببقالة الحي الصغيرة   ،   تأملت ملامح  العابرين  ، ورأت تهاني تخرج من بينهم 

كانت تصرخ أنا لم أسكت قلبها ، وأنا ... ،  هى  ...

أرادت أن تسألها كانت تجمع لها أسئلة  من أنت يا تهاني ؟

من أين أتيت ؟  لماذا اشعر بالخوف عندما اجلس معك ؟

تهاني ضحية  ترددها في أعماقها ، وهي  تمد يديها الطاهرتين لها .

 يزداد لهيب حرارة الشمس تعود إلى الشقة . تسكب على جسدها الماء .  وتغرق في دوامة أسئلة جديدة .

في المساء بعثرت يديها  النحيلتين أوراق كثيرة ، بحثت عن أوراق  لتهاني وجدت اختبارات  قصيرة ، ووجدت كلمات من يأس لها . وظهر لها حوارها عن اجاثا كريستي كانت تؤكد لها أن هناك جرائم كاملة لن تكتشف  للأبد .

 كثيرا ما يزعجها وجود تهاني المفاجيء  في مكتبها  ، والذي يربك هدوئها   .

  كانت ستأتي تهاني لزيارتها  في  الشقة ولكن صديقاتها  رفضن قدومها واشتد جدال بينهن  ،  وأخيرا خضعت عبير  لرأيهن واعتذرت منها .

الخوف الذي يمتد بينها وبينها .  المنازل المخيفة التي تراها في مناماتها ، والوجوه البشعة  .

في ظهيرة اليوم التالي   مر خبر  انتقال تهاني إلى البلدة المجاورة لمتابعة التحقيق  ، وحملته  ريح البلدة   إلى  منازلها  ،ودكاكينها ،ومزارعها   ، وسوق النساء الترابي  الذي يقع في أطرافها     .

أخبار وصلتها أن المرأة تحمل قلبا ضعيف النبضات  ، وأخرى أكدت  أن ركلات تهاني   أودت بحياتها .  

في المساء  زارتها رجساء   ، عندما كانت تتحدث  رجساء ،  سقطت حكاية الزوج  السكير ، وظهرت تهاني مع أب وأم ،  وشارع ضيق ومنزل صغير يحتوي  ساعات ذهبية ، ونقود كثيرة  ، وأجهزة هاتف نقال  ، أجهزة كمبيوتر ، وصوت امرأة  مخنوق ، ورجل أعمى  عرفتها بصيرته الحادة، وخصلات شعر لها لون شعرها . لمست شعرها  ، مرت بيدها على صدرها ، شدت طرفي ياقة  بلوزتها  الوردية ، بسملت ،

هربت من عيني رجساء تمنت أن لا ترى دموعها .

وهي تبدل ملابسها لاح خدها الايمن وكتفها على المرآة الطويلة   رددت بحزن   

لا لست ساذجة . أتاها صوت من أعماقها بل صادقة  إلى حد السذاجة! .  أي احساس  هيمنت به تهاني عليها . هناك خط لم تحمه  في علاقتها بها ،  خط دقيق جدا

ملا  قلبها اشتياق  عاصف لصدر  أمها  ، ها تفتها بكت بألم  ، بعد مهاتفتها لأمها فتحت النافذة  ، لمحت  عيون نوافذ منازل البلدة تحدق بها  ، وسمعت حكايات  تنتثر عن تهاني ، وسمعت أسمها  تحيط به كلمات  غامضة  . ورأت أيادي ترسمها بوجه نصفه يحمل قسمات وجه تهاني .

في الصباح  كانت  تجلس في سيارة أبو فراج  وبجوارها حقائبها   ، في الطريق  اتسعت في أعماقها رغبة  الإجابة على سؤال حاصرها  كثيرا : ماذا بينك وبين تهاني ؟  .  فتحت نصف النافذة  ، رأت  رجساء ووجوه  كثيرة تحتشد خلف النافذة  ، أقفلت النافذة . تلك اللحظات  لاحت لها ملامح  ذكر هدد فجر أنوثتها وهي في الرابعة عشر   ، ووجدته بين  أوراق تهاني   .

 

 

التعليقات

أترك تعليق