المترجم الأدبي ورحلة الإبحار المخيفة

المترجم الأدبي ورحلة الإبحار المخيفة

 

عندما قالت مارينا تسفيتايفا شاعرة قصيدة النهاية «إنني أرغب اليوم في أن يتحدث ريلكة من خلالي»، فإنها تعني أشياء كثيرة يتم خلال انتقال النص من لغة إلى أخرى لتكمل. فنحن لا نعمل فقط على نقل لغة إلى لغة أخرى (اللغة الروسية مثلاً) بل نقطع النهر أيضاً، أكدت تسفيتايفا أن فعل الترجمة يتجاوز نقل الكلمات، وهو الفعل الذي يراه برمان طاقة ومنبعاً للخلق والإبداع. فالترجمة هي رحلة الإبحار الممتعة والمخيفة في الوقت ذاته، الرحلة التي تخفي سلسلة عمليات تواصلية ومعرفية عميقة. فالترجمة تمثل أبعاداً عديدة: بُعد الكلمة، وبعد الفكر، وبعد روح الكاتب في النص، وبعد الأخلاق الثقافية.
والترجمة هي فعل تقبل الآخر، ومحاولة الاقتراب منه، والتعرف عليه، وفتح تواصل ثقافي وحضاري وإنساني معه كما أنها عبور الآخر عبر شخص واحد، شخص واحد يعبر إلى الآخرين، هذا الشخص هو شخص مختلف يتحمل مسؤولية جسيمة بمفرده إنه المترجم الأدبي الذي أما أن يكون كاتباً متخصصاً في اللغة المصدر، أو عاشقاً وشغوفاً بهاً. يشبّه روبرت ويشلر المترجم الأدبي بالموسيقي، فالمترجم الأدبي يأخذ كتاب شخص آخر ويكتبه بطريقته الخاصة، تماماً مثلما يجسد الموسيقي نوتة شخص آخر بحركة جسمه أو حنجرته، فالمترجم الأدبي يجسد أفكار وصور شخص آخر من خلال كتابتها بلغة أخرى.
يجلس المترجم الأدبي على مكتبه بين كتبه، وقواميسه يختار نصاً أدبياً يقرؤه، يدهشه، فيقرر أن يحتفي به بطريقته، ويكون الاحتفاء إحضاره إلى متحدثي لغته الأم، وهنا يبدأ في الإبحار تجاه لغة النص وأناسها، يتتبع كلماتهم، إيماءتهم، صلواتهم، غضبهم، بهجتهم، وتاريخهم وأسلوب حياتهم اليومي وتحاياهم. 
تمر به صباحات ومساءات وهو يبحث في الكلمات ومدلولاتها، يقتحم أعماقها، يتأمل ما بين السطور، يتوقف أمام كلمات لساعات، وأحياناً لأيام، يحرر، ويدقق ويستدعي مكملاته المعرفية، يبحر تارة باتجاه الترجمة التأويلية وتارة باتجاه الترجمة الحرفية من خلال صياغة حرفية لا تحتمل التأويل، يحاول أن يكافئ نصاً بنص آخر، يخلقه من لغته الأم، يمر بأنهار، وصحارى، ودور عبادة، وطرقات ضيقة، حاملاً معه متلقي لغته الأم. 
يقف المترجم الأدبي على تخوم حساسية مفردات اللغات ومعانيها، وشاعريتها، وقسماتها الصارمة، فيبتكر تعادلات، يتحرر لحظات من تلك الحساسية، ويعود إليها في لحظات أخرى، تطارده، ويطاردها، يهادنها تارة، وتارة يثور عليها عندما تستعصي عليه، وأخيراً يذعن لها من خلال لغة وسيطة. يفعل كل ذلك وهو يحمل في وجدانه وفكره الثقافي قلق مسؤولية التأثير الثقافي على المتلقي في لغته الأم، وجذبه نحو النص الذي حمله من أرض أخرى، وبملامح آخرين لا يشبهونه، ولا يشبههم إلا في إنسانيتهم وإبداعهم.
في رحلة إبحاره يحاول أن يتجاوز المترجم الأدبي مفردة الخيانة، فيجند كل إمكاناته الإبداعية والجمالية ممسكاً بروح النص وكاتبه، وهنا تنهض أخلاق المترجم، ممارسة الأمانة مع النص وكاتبه، فهو الحارس الأمين على اللغة الأخرى عندما يحتك بها واللغات الوسيطة بينهما، فالمترجم الجاد يرتبط بكاتب النص الأصلي ويشعر بانتمائه له وبأنه يشاركه فكره وكلماته، وتنشأ بينهما علاقة ألفة وصداقة. 
وفي منتصف رحلة إبحاره يمر به صوت يذكره أن الشعر يفقد شيئاً ما في الترجمة، فيعود يقرأ كلمات شاعر النص الأصلي مرات عديدة، يمتلئ رأسه بصوت الشاعر، وتمتلئ روحه بروحه، ويبدأ في رحلة تكافؤ الكلمات بين لغتين لا تتماثلان ولا تتطابقان حيث لكل منهما فضاءاتها الجمالية الخاصة بها، ليعبر بقصيدة لغة المصدر بين يديه، بحنو كوردة، لا يريد أن يتساقط شي من أوراقها الناعمة.
إن المترجم الأدبي لا يقترب من الطبيعة اللسانية للغة فقط، بل هو يتداخل مع ثقافة اللغة وحضارة وسمات اللغة النفسية، وهنا يصل إلى حالة اندماج جمالية مع اللغة.
يمارس المترجم الأدبي في رحلته لترجمة نص شعري أو سردي أو مقال فلسفي أدواراً عديدة فهو عالم فقه اللغة الذي يعرف تطور اللغة وسياقاتها وتحولاتها، وهو مؤرخ السياق التاريخي للنص، وهو الزائر السائح الذي يزور أمكنة النص، وهو المثقف الذي تمثل ثقافته نجاحاً للعمل كما يؤكد د. عبدالواحد لؤلؤة  «الثقافة هي الأساس الذي تقوم عليه الترجمة الناجحة»، كما أنه يحمل وعياً تمنحه إياه الترجمة، تنعكس على كتاباته إذا كان كاتباً وعلى نقده إذا كان ناقداً، وعلى ذائقته إذا كان عاشق للغة وآدابها.
يدرك المترجم الأدبي إشكالية الترجمة في عدم تماثل اللغات، واختلافها، ولكنه يؤمن بأن الإنسان هو الإنسان في كل اللغات، وأن الحب والخير والحرية والسلام هي أمنيات البشر في كل الأمكنة، ويملؤه غرور بأنه وحده من يزيل حواجز اللغات، ويجعل البشر يعرف كل منهم الآخر، ويحترم كل منهما الآخر.
يتذكر المترجم الأدبي أن العصر الذي أصدر فيه هولدرلين ترجماته يعد عصر الترجمات العظيمة بألمانيا، فعندما يقوم بالتعديلات يظهر له هولدرلين، عندما ترجم أعمال سوفوكليس فقد ألغى أسماء الآلهة الإغريقية، وعوضها بتسميات جديدة أضفت طابعاً غربياً على النص وقربته من المتلقي الألماني.
وعندما ينتهي المترجم الأدبي من رحلته مع النص ويصل إلى شاطئ لازوردي تتلألأ على وجنتيه أشعة شمس دافئة، يسمع صوت جاك دريدا وهو يردد: «يجب على كل ترجمة جيدة أن تتجاوز الحد»، وهنا تعتريه مشاعر بهجة وانتصار، وهو يسمع تغاريد نوارس بيضاء تحلق من حوله تخبره بأنه أحدث أثراً جمالياً وثقافياً لدى قرائه، وعبر بأمته إلى فكر ووجدان الآخر.
 

التعليقات

أترك تعليق