آبي جار الله
آبي جار الله / قصة قصيرة
يا لوعة قلبي على آبي جار الله. .
كنت كل صباح اسمع في تلك المدينة المتناثرة في الصحراء أحاديثا تتسلل من نوافذ عماراتها عنه ، كيف استطاعت تلك المدينة الضبابية أن تلمز آبي جار الله ، الرجل الكبير ، والذي سيبقى كبيرا رغما عنها ، وعن مجمعاتها التجارية الزجاجية ، وعن ركاب سياراتها الفارهة .
آبي جار الله إمام مسجد القرية ، تخلق من صدق سفران و ذكاء زُهره المهيبة .
آبي جار الله يحفظ قصائد الانتصار التي نظمها جده الرابع في هزيمة الأتراك ، والتي تجاوزت القرية إلى القرى المجاورة ،وتغنى بها الكبار والصغار . عندما يمر بذاك الوادي تنتصب قامته ، يتنفس بعمق ، يمشي بثقة بين أشجار العرعر والتين . ذات يوم أسر لي بأن تلك الأشجار لازالت تتحدث عن بسالة جده .
يسكن آبي جار الله في ذاكرة شباب وأطفال قريته ، ويمتد حضوره إلى صباحات القرى المجاورة التي بدأت تتسع باتجاه الطريق العام . الكثير من أبناء قريته تسموا باسمه حتى أصبح اسم جار الله اسماً يحمل ألقاً خاصاً . ترى كيف سألتقي أبي جار الله ؟
كيف سا نظر إلى عينيه العسليتين ؟
يا قلبي يا آبي جار الله . اسمع بسملته والتي يتبعها بعبارة \"ما شاء الله \"عندما يدخل بيتنا الصغير كضوء وينثر كلمات محبة لأمي ولنا ،عندما توفي أبي كان آبي جار الله وحده من يرد عنا ظلم أخوة أبي .
كل ذكور الحي وإناثه يصلون وراءه .
الله يأخذك يا حامد -
ترك حامد القرية بعد حصوله على الشهادة الثانوية . كان آبي جار الله معترضا على دخوله الجامعة فقد حلم كثيرا به وهو يرتدي بدلة عسكرية ويضرب الأرض بقدميه بقوه ، ويطلق صوتا قويا . ولكن قامة حامد خذلت أمنيات أبي جار الله التي تجاور النجوم .
كان أبي جار الله يرى حامداً طويلاً .
يحفظ حامد معلقة أمريء القيس ، لا يخطئ في الإملاء .
هو الذي يكتب عقود آبي جار الله ، ومواثيق أهل القرية .يميل حامد إلى الصمت كثيرا
بكى آبي جار الله لفراق حامد . في مكالماته الهاتفية معه يحدثه ملامح جديدة بدأت تلامس وجه القرية ، حكى له بفرح عن تحول تلك البقاله التي تقع أسفل الوادي إلى سوبر ماركت ، وحدثه عن لوحتها الزرقاء الكبيرة المحاطة بأضواء النيون ، كما حدثه بغضب عن مبنى مدرستي الجديدة ذو الأبواب الصفراء والذي يراه صغيرا لا يتسع لأمنيات إناث قادمات .
قسمات وجه حامد تشبه إلى حد كبير قسمات وجه آبي جار الله البيضاوي ، عينان بارزتان قليلا ،وشارب خفيف. .
أتذكر بأنني لم انتبه، أو ربما لم أستوعب عبارة احداهن
\" كلموا الدكتور حامد في منتصف النهار وليس أوله \"
حامد غائب عن تسابيح المساء ، وآبي جار الله هناك في القرية يفتح صوته الرخيم نوافذ فجر القرية مرددا \"الله اكبر\" ثلاث مرات ، فتستيقظ أمهات العصافير وتوقظ بشقشقتها صغارها ، بعد دقائق تفتح الأبواب ، وتتدفق خطوات من البيوت الجبلية المتناثرة باتجاه صوته الذي ينطلق من بيت الله. .
آبي جار الله الوحيد الذي رحب بالطريق العام ولم يهتم كثيرا بالتعويض الذي تمنحه الحكومة له ، كم كان سعيد ا عندما رأى رجالا مبتسمين يترجلون من سيارات ذات شعارات ملونة مطبوعة على جانبيها ، كان يشعر بتعب أهل القرية وكان يريد أن تكبر قريته ،استاء ذات يوم عندما سمع مني كلمة قرية ، رد وهو يشدد على حروف كلماته : لا تقولين قرية يا بنتي صارت مدينة . .
لم افهم أبي جار الله كثيرا ، عندما أراه من نافذة بيتنا مرتديا شماغه التي يلفها حول رأسه وهو يتابع جريان ماء ذاك النهر الصغير يظهر لي رجلا في العقد السادس لا اعرفه . لم يكن مقتنعا إلى حد كبير بإكمالي دراستي . تلك الليلة اختلقت له مبررات كثيرة منها أن لا اترك أمي بمفردها ولكني اشعر بأنه يصارع شرائع عتيقة بقيت في ذاكرته من أيام سالفة عن حدود الأنثى ، لن انس وأنا أودعه متجهة إلى المطار عندما قال : حامد قدامك إذا بغيتي شيء اطلبيه ما يقصر. تبع كلماته بتهنيده كأنني فهمت سرها .
هناك في الحقول التي باتت تصافح الطريق العام ،مرت خطى أسلاف آبي جار الله .أما على مياه الركبان* البلورية * فقد مرت أهازيج وأغنيات عاطفية لامرأة مجهولة ، لم ينفع استدراجي الماكر له في مرات عديدة ليحدثني عنها .
ينهض حامد مرتعدا في بعض صباحات المدينة عندما يأتيه صوت أبي جار الله وهو يلقي عليه وصاياه
\"خلك رجال وأنا بوك والصلاة الصلاة\" .
لم تتغلغل تراتيل آبي جار الله إلى أعماق حامد .
في جلسة إبحار فلسفية ذات مساء ، وفي بيتنا ، حدثت أبي جار الله عن إيمان الأعماق ،والمؤمنين ، نثر عدة أسئلة باستحياء ، ولكن قريته لا تحب أحاديث كهذه تزعج سكون مساءاتها وتأتي لها بفكر غرباء عليها استجاب لرغبتها كما يفعل دائما ، وخرج. .
عيون شرفات مساءات هذه المدينة مليئة بالكذب والنفاق ، لم ار إنسانها . يطل علي حامد بوجهه الأبيض البارد فيلف المكان بصمته . صعقني خبر كاد أن ينقلوه إلى مكان آخر لولا تدخل احد الكبار ، هزتني العبارة ، و حمدت الله أنها لم تصل إلى آبي جار الله
بالقرب من الوادي وفي مزرعة أبي جار الله وأنا أتابع قفز صغار الماعز المبتهجين حول أمهاتها سمعت أبي يتغنى بحامد
كادت أن تنزلق من شفتي عبارة : لا يا آبي جار الله .
يظهر حامد من الحقول تحيط طاقية مقصبة بمنتصف مؤخرة رأسه حاملا حبات من المشمش والحماط بين يديه يوزعها علينا .
يوم ميلاد حامد تذكره القرية والقرى المجاورة ملأت سماء القرية رائحة مرق لحوم عدد من الخرفان وعجل صغير ، وقدمت أيادي نساء العائلة الخبز البيتي المخمور ، والتمع السمن والعسل في أواني خشبية ملساء لامعة ، وترددت على الشفاه كلمات الحمد والثناء لله وتبعتها عبارة ذكر بعد ثلاث بنات .
لا احد ينتمي إلى أبي جار الله إلا طاهر .
ذات يوم سقطت خصلة من غرتي الكثيفة أمام حامد ، بعد ثواني تمردت خصلات شعري على البكله وانسكب على ظهري ، رفعت غرتي سحبت غطاء راسي بهدوء تعلمته من المدينة تأملت يديه لا تشبهان يدا أبي جار الله اللتين حلقت شعري وأنا رضيعة برفق
نظر إلي ولأول مره أرى بريق في عينيه : صحيح أبوي يده مبروكة .
يتبارك نساء القرية بيمين آبي جار الله ، فيحملن إليه الرضيعات ليحلق شعورهن بمقصه الفضي الصغير . .
عندما خرجت سمعت أبي جار الله ، وقد اسقط همزة اسمي يقول لحامد : لو انك تزوجت وفا .
رد حامد الله يوفقها .
تلك اللحظة تأججت رغبة في أعماقي أن أقول أن حامداً خارج عاطفتي .
تزوج حامد من تلك المدينة الصحراوية فتاة أحبها ولكن آبي جار الله لم يتقبلها .
تأتي الأخبار إلي في المدينة عن إغماءة آبي جار الله على احدى المصطبات الخضراء وهو يمسك على قلبه . لم اسمع آبي جار يشتكي يوما ما من شيء ، اقترب من القرية يلوح لي بيت أبي جار الله ، تتداعى في ذاكرتي كلماته ، وأغنياته عن حبيبته المجهولة
اقترب سيارة إسعاف تغادر ادخل . ملامح أنثوية في الصالة .
اتجهت إلى غرفته التي تعرفني ، دخلت ، أصوات ذكور تتعالى تختلط اقتربت من سريره كأنني سمعت
يقول : رجال يا بنتي \" ويشير بيده اليمنى لابتعد ، فاقترب ، يكررا شارته فاقترب .
ضغطت على يده اليمنى ،قبلتها ، لمست فيها برودة ندى تلك الصباحات الهادئة بكيت
كان سؤاله الأول كيف حامد ؟ ولكن هذه المرة مصحوبة بنبرة حزن .
تلعثمت : \"حامد ..بخير يا آبي \" ، وعدت في لحظة أ تأمل جسده الذي أصبح هزيلا .
ابتسم .
رددت في نفسي والدموع تحتشد في عيني \" فدوه لك حامد و الأرض كلها . لا ، لن أخبرك بحامد الذي ابتعد عن نهارات ذاتك ، لن أقول بأنه أضاع تلك التراتيل التي خبأتها بين تلافيف غترته البيضاء وهو يغادر القرية ، لا لن ألقى على قلبك وجع كبير ، ولن أرى عينيك اللتين لم تر غير صباحات القرية ما وراء تلك الجبال . لن أقول لك يا آبي جار الله الحبيب بان حامد لم يكبر في المدينة الكبيرة.
أتى نسيم بارداً من النافذة خرجت .
بعد أيام غطت سماء القرية والقرى المجاورة غيمة سوداء ، ، ومرت بالطريق العام ريح غريبة ، هزت أبواب بيوت القرية ، اقتربت من بيت آبي جار الله مصحوبه بصوت أجش ، بكى آبي جار الله ، اتسعت أخبار العتمة التي تحيط بحامد ، وتلك الكؤوس الصدئة التي تغيبه عن الله والملائكة والحياة ، تعالت صيحات استهجان أسلافه الصالحين ، وتعالى غضب قصائد الانتصار . ازداد نبض قلبه ثم صمت . مر بكاء أشجار العرعر بالطريق العام ولامس أنين الركبان الحانية قمم الجبال ، وخرج نحيب من قلب امرأة تشبه أمي مندفعا تجاه نوافذ حجرات بيته الذي يجاور بيتنا منذ ثلاثون عاما .
2012
تم نشرها في موقع القصة العربية .
كنت بحاجة للبكاء فبكيت على جار الله وحامد وأهالي القرية كلهم ربما النقاء لم يرحل ،ربما هو مخبأ هنا أو هناك بين الحقول والبساتين بين براعم الرمان والياسمين ،أشياء جميلة تركوها لنا ...دام نبضك وحروفك المتألقة ،،،