صوتها
هذا المساء ، كانت تتوقع جمانة أن أمها التي دست لها في مساء فرحها عبارة ( ماعندي بنات يرجعون ) ، ستصرخ بها، وهي تمسك بكلتي يديها المعروقتين على رأسها،وسينحسر غطاء شعرها المشجر الشفاف، عندما تبوح لها بسرها ( أمي بعدني بنت ) . ولكن أم جمانة لم تفعل ما توقعت .
في ليلة ، كانت تودع نسائمها حوريات شواطئ الدمام ، زفت جمانة في فستان أبيض نسج من الدانتيل والتافتا، تبعت خطاها طرحة ثبتت تحت تاج بلوري، انسدل منه خصلات من شعر ها الفاحم لامست كتفيها العاريين.
كان يتبعها صغيرات يحملن سلال ورد جوري ، يرتدين فساتين من بياض .
اُطفئت الأنوار، وبقيت أضواء الشموع البيضاء التي انتثرت على الطاولات، وبدت جمانة كأميرة فاتنة تحتفي بها الثريات .
حدث ذلك قبل ثلاث سنوات ، عندما كانت جمانة في السنة الثالثة في كلية الآداب . أتى إليها عبر أمه، فتحت أمها لهما الأبواب .
كان يزعج جمانة أن أمها لم تلتصق كثيرا بالدمام التي تحمل صباحاتها نسائم البحر ، رغم أنها تعيش فيها لعقدين وأكثر ، فهي لازالت تحيا هناك في قريتها الجبلية .
تقف جمانة في أخر صف من خمس بنات ، هي الصغرى.
تزعج أمها بعض افكارها التي خرجت عن افكار بناتها الأربع المطيعات .
في غرفتها الصغيرة التي تقع في الطابق الثاني في بيتهم القديم . كانت تحيا مع حكايات حب بين كتبها ، تتأمل كثيرا ملامح العاشقة الفيكتورية التي تسكن لوحة فريث .
في البيت أوامر كثيرة تلجم شغب صباها.
دائما تسال ذاتها هل أحبته؟
شاب طويل القامة ، وسيم إلى حد ما، يكبرها بأربع سنوات وجدته أمامها بثروته التي ورثها من أبيه ، أخذها إلى فيلا تغطي نوافذها الكبيرة ستائر مخملية بحمرة قانية .
في تلك الليلة ، همست لأمها وهي تخرج من القاعة \" أمي زوروني \" وفرت دمعة من عينيها، ربتت أمها على كتفها، وتعالت زغاريد أخواتها وقريباتها ولكن صديقاتها في الجامعة كن يبكين لأجلها.
في ظهيرة يوم تناثرت قطع غيم بين سمائه، تأملت جمانة علب الهدايا الثمينة المصفوفة على تسريحتها، فتحت إحداها، تناولت سوار ، لبسته .
إقتربت من سريرها ، القت نظرة حزينة على المفرش السكري ، استلقت ، شدت اللحاف على جسدها الغض، وأغمضت عينيها ، تلك اللحظات، سقط السوار .
في بيتهم ، سألتها ذات العينين الواسعتين : كيف الزواج؟
ردت بتلعثم وهي تمسح بيدها اليسار على شعرها: تمام.
همست لها ” انضممتِ لقائمتنا ، قائمة المتزوجات .
هزت جمانة رأسها بالموافقة ولكن بتردد .
لم تستطع أن تقول إنها مازالت عذراء .
في الغرفة الواسعة وفي درج (الكوميدينو) التي تجاور رأسه تناثرت أقراص متنوعة .
ليال عديدة يقترب منها، يحاول ، ويحاول، يصرخ بصوت عال، يبكي على كتفيها كطفل، تبكي، تحاول تهدئته ، يهزها بعنف، يضربها، تصرخ تدفعه عنها، تنهض بسرعة، تركض خارج الغرفة .
تنكفئ على الكنبة، تنهمر دموعها، تلف يديها تضم ركبتيها ينحسر قميصها القصير ذو الخيوط الحمراء ، تشده ، يزداد بكاؤها، تسمع خطواته قادماً باتجاهها، تصمت دموعها يبقى أنينها، تختلس إليه النظر، ينصب ضوء نور خافت على وجهه النحيف، يقترب منها ، يجثو على ركبتيه، يعود إلى الغرفة ، يصلها صوت بكائه.
بدأت تتابع البرامج التي تبث حكايات تشبه حكايتها، فكرت أن تهاتف احد المختصين؟ ولكنها لم تفعل .
كل ليلة ، تنظر بأسى إلى قمصان نومها الشفافة المحتشدة في دولابها ، وهي تتأمل تفاصيل جسدها في المرآة .
عندما ترتدي ذلك القميص اللؤلؤي ، تشعر أن فصوصه المتلالئة الصغيرة على صدرها تحرضها على حق أنوثتها في الحياة.
بعد الليلة الأولى باسبوع ، بدأ بينهما حوار هامس ، أكد لها أن ما يحدث شيء طبيعي ،وان لها دوراً في تجاوز ذلك ، التفتت إليه ، وتركت له نظرة مبهمة.
بعد شهور ، دار حوار مع أمها عن موضوع الحمل، توقعت أن أمها ستشعر بشيء ما، ولكن لم يحدث ذلك .
بدأت الأمنيات تنهمر من النساء حولها ، بملامح طفلة تشبهها،تسلب منها تلك الشامة التي تعتلي شفتها العليا، تمد أصابعها الصغيرة إلى فناجين قهوة صباحاتها، وتبعثر ترتيب وسائد صالة الجلوس الكبيرة.
كانت جمانة لا تريد أن تصمت شفاههن عن ذلك ، تلك اللحظات ، كانت ترى صغيرة تمسك يدها بقوة ، وتنزل بمرح قدميها الصغيرة درجات السلم الحلزوني خطوة خطوة .
لم يعد قلبها الحالم يحتمل بكاء انوثتها الخافت، من ستخبر؟ أمها ارتعشت لا .
فمازالت تحفظ عبارة أمها ”ماعندي بنات يرجعون لنا \" .
أما أخواتها فلم تفكر أن تخبرهن ، فهن بين سواد فكرهن وأرديتهن .
تتعاقب مساءات متشابهة ، تسرق بريق عينيها .يحاول أن يقنعها أنه سيتعافى .
دائماً معها، لا يسهر كثيرا ، ليس له أصدقاء كثر .
مازالت هداياه الثمينة تتدفق .
عندما تسافر معه ، كانت تبدو كطفلة تريد ان تكتشف عوالم جديدة، كان يحاول أن يجعلها تنسى، ولكنها كانت تبحر في ذاتها ، وتقترب أكثر من أنوثتها .
قبل ليلة ألقت عليه حقيقة أنانيته، وحكت عن مشاعر الأنوثة التي يجهلها أو لا يريد أن يعرفها، جحظت عيناه الضيقتان وبدأ في الدفاع عن ذاته بعبارات مرتبكة .
في تلك اللحظات ، تكشفت لها حقيقة، كان يعرف بكاء أنوثتها،ولكنه أراد ان يبقيها معه على أرض أمل واهنة. واستيقظت أنثى غاضبة في أعماقها .
قبل المساء ، جمعت فساتينها وقمصان نومها، وعطوراتها في حقيبة كبيرة ، بسرعة التقطت كتبها الصغيرة من المكتبة .لفت إطار لوحة العاشقان بورق شفاف ووضعتها في حقيبة الكتب .
بين ذلك ظهرت لها أسئلة كثيرة كيف سمحت له بخداعها طوال تلك المساءات ؟
كيف أضاعت سنوات دراستها ؟
كيف تخلت عن أنوثتها ؟
خرجت من غرفتها ، مرت عيناها على ورودها الصغيرة، علق جزء من فستانها بفتحات السلم ، نزعتها بقوة وتابعت خطواتها عندما وصلت إلى نهاية السلم رفعت رأسها إلى الأعلى وجدته ينظر إليها بتوسل ، خرجت، ناداها لم تجبه ، وغادرت .
هذا المساء اقتربت من أمها ، لم تبتلع ريقها بصعوبة ، ولم تتلعثم كما اعتادت أن تفعل أمامها ، غابت نظرات اخواتها الخائفة، وأخبرتها بسرها
- ”ثلاث سنوات يا أمي ، وبعدني بنت ”.
توقعت أسئلة كثيرة .ولكن أمها بكت وهي تجلس على كرسيها
خيل لها أنها سمعت صوت يشبه صوت أمها ، يهمس ” كنت أعلم ”.
تركت غرفة أمها، مشت منتصبة بإتجاه غرفتها الصغيرة ، فتحت النافذة ، رأت صبية الحي يتقاذون الكرة في ملعبهم الصغير الذي زرعوه مؤخرا ، كانوا يهتفون ، شعرت بأنهم كانوا يهتفون لإنتصارها المؤجل .