الدماغ والكتابة الإبداعية
شغلت العملية الإبداعية وعلاقتها بالعمليات العصبية التي تتم في الدماغ؛ باحثي وعلماء طب الأعصاب وعلم النفس، منذ عقود حتى اليوم. ونشطت هذه الدراسات في السنوات الأخيرة، فتناولت الفنون والموسيقى والآداب. ومن هذه الأبحاث دراسة قام بها عدد من العلماء في ألمانيا، أثارت جدلاً في الأوساط العلمية، فقد أثنى عليها بعض الخبراء، ووصفوها بأنها تقدم علمي متميز في فهم أبعاد الكتابة والإبداع؛ بينما انتقدها آخرون، حيث اعتبروها من البساطة لكي تكشف أي شيء ذي معنى بشأن غموض الأدب أو الإلهام الذي يصعب تفسيره. ولأول مرة تم استخدام الرنين المغناطيسي لتتبع نشاط الدماغ لدى الكتاب المبدعين والمبتدئين. وقد تم تسليط الضوء على نتائج هذه الدراسة في صحيفة نيويورك تايمز، وعدد من المجلات المتخصصة.
ترأس فريق هذا البحث البروفيسور مارتن لوتز Martin Lotze، وهو طبيب الأمراض العصبية بجامعة غرايفسفالت (بالألمانية GreifSwald).
ولكن ماذا عن البروفيسور لوتز نفسه؟
لقد فتن البروفيسور لوتز لفترة طويلة بالتعبير الفني. وعبر تتبعه لدراسات سابقة؛ لاحظ أن هناك أماكن في الدماغ لدى عازفي البيانو ومغني الأوبرا تصبح نشطة على غير العادة في الدماغ.
الدماغ والكتابة السردية
استخدم لوتز وفريق عمله من الباحثين في هذه الدراسة العلمية جهاز الرنين المغناطيسي، لسبر عمل أعصاب الدماغ أثناء الكتابة الإبداعية، وقد اختاروا لهذه الدراسة عدداً من الكتاب. وقد لاحظ الباحثون أن الشبكة الخارجية لمناطق في الدماغ كانت تعمل معاً، عندما أنتج الكتاب قصصهم؛ ولكن كانت توجد فروقات بين المجموعتين، فقد أظهرت العمليات الداخلية في الدماغ لدى الكتاب المبدعين بعض الشبه مع الماهرين في الأعمال المعقدة مثل الموسيقى.
بدء الرحلة
للحصول على معلومات دقيقة، طور البروفيسور لوتز برمجيات أجهزة الرنين المغناطيسي، بحيث تستطيع أن تلتقط التقلبات التي يقوم بها الشخص الذي تجرى عليه الدراسة كالتنفس وحركات الرأس.
أراد البروفيسور لوتز أن يصور الكتّاب بينما يكتبون فعلياً، ولكنه لم يستطع أن يعطيهم لوحة مفاتيح ليكتبوا بها؛ لأن ذلك سيؤثر على عمل الرنين المغناطيسي، لذلك صمم مكتباً بإمكانهم إراحة أذرعتهم عليه، وألصق به أوراقاً يكتبون عليها.
ولكي يبدأ الدكتور لوتز عمله، طلب من مجموعة الدراسة المكونة من 28 شخصاً أن ينسخوا فقط بعض النصوص، ويزودوه بالقراءة الأولية لنشاط الدماغ أثناء الكتابة.
بعد ذلك عرض لهم سطوراً قليلة من قصة قصيرة، وطلب منهم أن يكملوها، قامت مجموعة الدراسة بعمل عصف ذهني لمدة دقيقة، وكتبوا بإبداعية في نحو دقيقتين.
وقد لاحظ الباحثون أن بعض مناطق المخ أصبحت فاعلة فقط خلال العمليات الإبداعية، ولكن ليس في وقت النسخ. أما خلال جلسات العصف الذهني فبعض مناطق عمليات الرؤية أصبحت نشطة. وأرجعوا السبب إلى احتمالية أن عينة الدراسة كانت في دائرة التأثير، حيث شاهد الكتّاب المشاهد التي أرادوا أن يكتبوها.
أيضاً أصبحت مناطق في الدماغ أكثر نشاطاً عندما بدؤوا يدونون قصصهم.
ارتاب البروفيسور لوتز في أحد هذه المناطق من الدماغ، وهي منطقة قرن آمون؛ حيث كانت تسترجع المعلومات الواقعية التي استخدمتها عينة الدراسة.
لوحظ أيضاً وجود نشاط في إحدى المناطق القريبة من الجهة الأمامية للدماغ، والمعروفة بدورها الحازم في الاحتفاظ حالاً ببعض المعلومات في العقل. فالتعامل مع بعض الشخصيات وخطوط الحبكة قد يفرض مطالبات خاصة عليها.
اكتشاف خطأ ما
اكتشف البروفيسور لوتز خطأ كبيراً في الدراسة، وهو أن مجموعة عينة الدراسة ليست لديهم خبرات سابقة في الكتابة الإبداعية، وهنا برز سؤال:
هل أدمغة الكتاب المبدعين المتفرغين للكتابة سوف تستجيب بشكل مختلف عن أدمغة الكتاب الآخرين؟
وهنا قام البروفيسور لوتز وفريق البحث من زملائه بخطوة جديدة لاستكمال بحثهم، فقد ذهبوا إلى جامعة ألمانية أخرى، وهي جامعة هيلدشيم التي كانت قد أقامت برنامج مسابقات متميزاً للكتابة الإبداعية، وتم اختيار 20 كاتباً ممن لا يتجاوز معدل أعمارهم 25 عاماً، وقدموا لهم الاختبار ذاته، وقارنوا أداءهم مع الكتاب المبتدئين.
وحسبما أعلن علماء في دراسة جديدة في مجلة (نيروايمج) أن أدمغة الكتاب المبدعين تعمل بشكل مختلف حتى قبل أن يضعوا القلم على الورق، بينما نشّط الكتاب المبتدئين مراكز الرؤية لديهم خلال العصف الذهني. وعلى النقيض من ذلك؛ فقد أظهرت أدمغة الكتاب المبدعين نشاطاً أكثر في المناطق المتعلقة بالنطق.
وعلق البروفيسور لوتز قائلاً: (أعتقد أن كلا المجموعتين تستخدمان آليات مختلفة)، وأضاف: (أنه من المحتمل أن الكتاب المبتدئين يشاهدون قصصهم مثل فيلم في ذاكرتهم، بينما الكتاب ذوي التجربة الإبداعية يحكون قصصهم بصوت داخلي).
ولكن ماذا حدث أثناء عملية الكتابة الإبداعية؟
عندما بدأت المجموعتان الكتابة ظهرت فروق عديدة، فقد أصبحت منطقة النواة المذنبة داخل أعماق أدمغة الكتاب المبدعين أكثر نشاطاً، بينما كانت هذه المنطقة لدى الكتاب المبتدئين ساكنة. وهذه المنطقة معروفة لدى الأطباء، حيث تلعب دوراً جوهرياً بالمهارات المرتبطة بالممارسة.
آراء حول البحث
(كنت سعيداً أن أرى ذلك)؛ هذا ما قاله د.رونالد تي كيلوغ الطبيب النفسي، الذي يدرس الكتابة في جامعة سانت لويس، مضيفاً: (أنت لا تريد أن ترى هذا بوصفه تناظرية لما كان يفعله جيمس جويس في دبلن؛ ولكن لترى أنهم كانوا قادرين بذلك أن يصلوا إلى نتائج واضحة، أعتقد أنها خطوة رائدة). بينما أشار البروفيسور ستيفن بينكر من جامعة هارفارد إلى أن النشاط الذي رآه البروفيسور لوتز خلال الكتابة الإبداعية ربما يكون شائعاً في الكتابة بشكل عام أو في نمط من أنماط التفكير التي تتطلب تركيزاً أكثر من النسخ، ورأى أن المقارنة ستكون أفضل لو كانت بين كتابة القصة والمقال، حول بعض المعلومات الحقيقية، وحذر من الخطأ الذي قد تقع فيه أفضل الاختبارات التي تستخدم أجهزة الماسح الضوئي؛ لأنها ربما تخفق في رصد إشارات الإبداع.
المرجع:
Zimmer ,C. ( 2014 ,,June 20 ). This Is Your Brain on Writing. New York Times , p. D 3.