وبيني سلاف
التلفاز الذي تتوسط شاشته البلازمية حائط الصالة الأمامي يبث مسلسلي الكرتوني المفضل .
ثلاثة عصافير صغيرة صفراء ذات مناقير ملونة تحيط بأمها ، أصغرهم مشاكس ، يأسرني دورانه السريع حول أمه والاحتماء بها ، صوت ذلك العصفور وجداله مع أخويه يشعل ضحكتي . تظهر كلمة النهاية ، يليها أسماء كثيرة تلمست منابت غيم الطفولة.
أترك مكاني واقترب من سلاف .أقبّل وجنتيها الصغيرتين ،و أمسح شعرها ، اتأمل ملامحها التي تمر بملامح أمي .
تسرق بصري تلك الدائرة البنية التي تستلقي على منتصف ساقها اليمنى . يقلقني وجود ها ، رغم أن الطبيب أخبرني بأنها ستتلاشى عندما تكبر . أدس قبلة في باطن قدميها اللذين هربا من الغطاء ، وأشده عليها . لازالت كلمة فوبيا والتي ألقاها ناصر ذات ظهيرة على تؤرقني . البارحة طلب ناصر مني أ ن نخرج للنزهة ، وأن أتـرك سلاف عند أختي شذى ، وافقته على مضض .
خرجنا كان يتحدث عن ذكريات أيام زواجنا الأولى ، ولم ينس أن يعاتبني بلطف بابتعادي عنه في هذه الفترة ، كان ناصر يتحدث ، وأمامي صالة بيت أهلي وبابها المتجهم يُرسلان إلي أفكار عمياء . تلك اللحظة لم أحتمل البقاء أكثر .
عدت إلى البيت وأنا احمل سلاف نائمة بين ذراعي ، سردت لناصر في طريق عودتنا حكايات الأطفال الذين رحلوا بابتساماتهم وتركوا ذنباً سرمدي على قلوب أمهاتهم ، وذكرته بالمثل الذي أسقتني اياه أمي منذ طفولتي وأنا ألعب بدميتي الصغيرة \\\" خذي ولدك في كمك ولا تخليه عند أمك\\\" .
عندما وصلنا البيت دخل ناصر ونام بغضبه ، تذكرت بأنني سمعت منه عبارة \\\" طبيب نفسي \\\" .
بقيت مع مفردات مثل أمي النوراني .
ادخل غرفة النوم ، الإضاءة خافتة ، والستائر ذات الالوان الباردة مسدلة ، وناصر يغط في نوم عميق حاضنا وسادة إلى صدره العريض . اقتربت منه ، جلست على طرف السرير أمامه ، ألم يهدد طمأنينة هديته التي تبلغ الشهر الخامس في عوالم كينونتي . التفت إليه ، ناصر أنا وأنت فقط ، ممنوع حضور الجوال والتلفاز والآخرون هنا . هل تذكر ذلك الميثاق ؟ . هنا توحدنا ، وهنا بكيت ، وبكيت أنت لأجلي عندما جرحني أخي ، هنا أحيا أنا وأنت كونا آخر لم يستطع أحد ممن حولنا استيعاب دفئه .
تدثر سريرنا الدافئ بحكاياتنا ، وضجت أغطيته الملونة الكثيرة والتي رتبتها ذائقتنا بضحكاتي التي يحركها شغب يديك ، فاصرخ حرام عليك بـا موت!1 . فتتوقف وأرى الخوف في عينيك فتسرع لتحضر لي كأساً من الماء .
ثم تذكرني بجذوري الريفية ، وتلمس إحساس آخر يسكنني يخيفك !
اعذرني ناصر .أحبك ، ولكن أحبها حباً مختلفاً ، أو حباً خاصاً بي سمه ما شئت .
أعذرني في مخاوفي ، جسدان صغيران يتوقف نبضهما فجأة ، و لا أدري لماذا ؟ تعذبني لماذا ؟
كنت أستمع إلى تفسيرات النساء الكبيرات في عائلتك لحالتي ، واتفقن جميعهن بأنني ملاحقة من تلك التي تُسكت نبض الصغار .
حفظ ذاك الطريق ملامح وجهي الكلثومي ، وألفت وميض عيني الممرضة الذكيتين ، والتي القت علي في مساء الحقنة الأخيرة إعجابها بتنورتي ذات الطبقتين .
في لحظة ترنحت بين التعب والإيمان ، أوقفت تناول الاقراص ،لم تعد تستوعب ملابسي جسمي ، وأتعبتني مواعيد الحقن الدقيقة التي يغمرها الثلج . كان القرار مفاجئ لك ولكن مريحاً لي .
وأتت سلاف في غفلة من انتظاري ، أخافتني رغم اشتياقي لها ، كائن قادم إلى هذه الحياة . ترى هل سترحب بها الحياة ؟ .
نثرت سلاف ضحكاتها في منزلنا الصغير ، تحولت نهاراته بفعلها الثوري إلى ضجيج أخضر نبت في كل الزوايا ، أضاءت الصالة دُماها الباسمة ، وفاح شذى فساتينها الصغيرة في غرفتي .
أتأمل جواربها الصغيرة المطرزة بنقوش من لون قوس قزح وهي تتلهف لقدميها الصغيرتين ، أغرق في لثم أحذيتها القماشية الملونة ، ، وزجاجات رضاعاتها ، وأتأمل قطع السكر التي تنتثر على لفافات جسمها الرقيق ، وعندما أشعر بتعب أستنشق رائحة عنقها الحنطي والذي يروي ظمأ اوردتي فيصطدم انفي بإطراف شعرها الناعم ، واسمعها تهمس بشفتيها اللدنتين م....ا م....ا .
منذ الاسبوع الأول البستها الأساور ، ووضعت في أذنيها قرطين صغيرين .
لأنها سلاف ابتعدت عن وحدة خالتي شاهرة أم الذكور والتي تأتي لأغلق سستتها ، ولأنصت الى حكاياتها التي تحيا في اعماقها .
سلاف جعلتني أكتشف جسدي أكثر، ازددت حبا له، ولأوراد أنوثتي العقيقية .
عندما استلقي على السرير وتأتي الممرضة بآلتها التي تبحث بها عن أمكنة حياة اطفالي ، تنطلق من فمي صرخة مكتومة وأنا أسبر أغوار رحمي عبر الشاشة المجاورة لي ، ويأتي الطبيب يبسمل ويحاول تهدئتي ويطلب أن اضغط على أسفل بطني بيدي فلا استطيع ، تنهمر دموعي ، يحضر وجه أمي ، أشتاق أمي . ولا أعلم من يتذكر الطبيب عندما ألمح في عينيه نظرة أسى .
ناصر هل تتذكر أزمنة إرضاعي لسلاف في الأشهر الأولى هي رحلة تأملية روحانية في سر من أسرار الله كما أسميها ، كنت اخجل من المربية ،أقفل علي الباب تتوقف كل بوصلة حواسي ، حالة طوارئ . أرفع شعري إلى أعلى ، أخلع خواتمي وساعتي ، اترك هاتفي النقال في الصالة ، وأرتدي رداء الرضاعة السكري المفتوح من الأمام ، أسدل الستائر فقط إضاءة خافتة . اجلس متربعة ومتأهبة وسط السرير ، تحاول أن تساعدني ، ابتسم عندما أرى يديك العريضتين ترتجفان . تضع سلاف على الوسادة الوردية الصغيرة التي اعتادتها في حجري ، تقربها إلي صدري ولكن بكاء ها الحاد يربكك ، فأتناولها منك فترضع ثم تنام ، المحك تتأملني بدمعة في عينيك ، و بصوت منخفض تهمس : \\\" مخيفة أنت \\\" وتخرج على عجل .
أدرك بأنك ترحمني من أمومتي الجزعة المستيقظة دائما والتي تجعلني اشعر بأسى فعندما أرى أطفال أختك الذين تتركهم للعاملة وتنزلق في سهراتها المملة ، وخاصة نحو ذاك الصغير الذي يحمل زجاجة حليبه الفارغة ويبكي باحثا عنها .
ناصر ترى هل لازلت أحيا دون أن أعلم حكاية موت باسم ابن ابنة جيراننا ، باسم المهذب و النظيف , ذو الخمس سنوات , تلك الحكاية التي أنشبت أظفارها في ذاكرتي منذ كنت في الصف الثالث ابتدائي ، شعر باسم الأسود الناعم ، جسده الملقى على أرض الحمام ، وأصابعه المتشبثة بأسفل الباب و بكاء أمه الموجع وهي تتوسد قميصه وبنطاله وقبعته البحرية . .
ناصر أتت سلاف وجلبت معها ملامح جديدة للكون في عيني ، رغبة اجازة لمدة عام تتحرك في أفكاري ، وملامح مربية فلبينية ارستقراطية تلوح لي .
كان أطفال اخوتي يأتون منزلنا يأكلون الحلوى ، ويلعبون ثم يذهبون إلى أمهاتهم ، ويتركون دمعة في قلبي ، تحاول مسحها عندما تعود وتراني ممسكة بالألعاب المتعبة ، وبأكياس الحلوى الفارغة .
شعرت بقوة غريبة بعد مجيء سلاف ، تشبه تلك القوة ليلة لقائي بك . قبل تلك اللحظة كانت جين لي تطلب مني أن اتخيل سلاف بعد لحظات ، غابت جين والفريق الطبي وغابت الغرفة والأجهزة . ورحلت في سماوات شاسعة. صحوت وأنا في الغرفة التي دخلتها أول ما أتيت وأنت أمامي تقول :
الحمد لله على سلامتك بنوته كما تمنيتِ .
أظن أنك ذكرتني أكثر من مرة بأنني قلت لك سلاف أهم.
ناصر هل تذكر قبل مجيء سلاف كان كل من حولنا يهمسون بكلمات موجعة ويريدونك أن تبحث عن أخر ى ، وكنت تردد لامك \\\"نصيب يمه \\\" .
كنت أتألم ، وكنت تمتص كل ذلك. أخبرك الطبيب أن حالتي نادرة في النساء وهمس لك باحتياجي إلى رعاية خاصة وأنني ربما لن أكون اماً لأكثر من مرتين .
ربما لا تعلم بسعادتي أن يكون لي منك أصدقاء صغار ، ناصر أصدقاؤنا أنا وأنت ، سنعلمهم أن يبقيا مكتملين ، سوف أقرأ عليهما أليس في بلاد العجائب ، وستمثل أمامهما يوميات تلك القصة التي كتبتها ذات يوم ، وسأمثل لهما مسرحيات ضاحكة حتى تمتلئ أعينهما الصغيرة بالدموع وسيمرون معي على حكايات الاميرة النائمة .
يتحرك ناصر ينقلب على جنبه الأيسر ، يصبح ظهره لي ، أحرك الكرسي ، أصبح أمامه ، صوت بكاء سلاف ، بسرعة حملتها وضعتها على صدري هدأت ، وغفت مرة أخرى ،
استلقيت بجواره أغمضت عيني رأيت امرأة بين ذراعي ناصر خدها يشبه خد صديقتي سارة .
ناصر عندما التقي بصديقاتي سارة و نوارة . أتساءل \\\"أيهما تحاول الاقتراب منك ؟ .
قالت لي ساره ذات مساء : ناصر رجل سوي .
ترى ما لذي جعل ساره تقول ذلك عنك ، سارة ذكية لا تلقي كلماتها هكذا وأغلب الاحيان آرائها صائبة .
أدرك أن لون بشر ة هدى الخمري يعجبك ، وقوة شخصيتها نالت من ثنائك ، فأنت تمجد المرأة التي تتخذ قراراتها بنفسها وتعتبرها بطلة ، ربما لأننا نحيا في غياهب عقول موحشة . تحب بنات أرضي وتشفق عليها ، تلك السنوات الست من عمرك والتي امتلات بنسائم نهر الراين جعلت قلبك اكثر تدفقا ، ولكنها لم تمحو من قلبك رائحة رياحين جنائن أمك .
ناصر كنت تحدثني عن مشاعر المرأة المنفصلة ، وسارة حديثة عهد بالانفصال . كنت تتحدث عن سارة دون أن تعلم ، نعم يا ناصر تتحدث عنها ، أي وعي فيك بتفاصيل الأنثى التي يبعدها عن كينونتها وعن مملكتها رجل سيء ، تكتشف بعد زواجها بأسبوع بأنه أسوأ رجل في هذه الارض ، وتعود ولازالت قمصانها وفساتينها في حقائبها .
\\\"المرأة تحب الرجل أولا ، ثم تحب الحب ذاته ، والأمان ذاته\\\" . هكذا قلت لي .
والرجل هنا يحب المرأة المنكسرة لأنها ستبجله ، وستحتفظ طوال عمرها بجميله لها .
ناصر . ساره تحبك .
مرات عديدة كاتنت ترصد الانثى العاشقة بمكر أنثوي كلماتك ، وملامح وجهك عندما أبتكر حديثاً عن ساره ، كنت تردد هى صديقتك . .
ناصر ادرك بأنك لست دون جوان ، ولست ذكر شهواني ، وليتك كنت كذلك ، ولكنك رجل من عاطفة رقراقة . .
وأقسم بأن أي أنثى تعرفك ستحبك ، وستهبك لآليء جسدها .
يمر بي هاجس يتسلل إلي ، ترى هل ألقت سارة رأسها على صدرك ؟
هل قلت لها أن الانثى أمام الرجل هي انثى فقط ، فلتمارس جنونها ، ولغة عاطفتها ، كما تريد ؟ فشجعها ذلك على أن تقترب منك أكثر !
هل نستني سارة تلك اللحظات ، وتذكرت ظمأ الانثى الجريحة التي تسكنها ؟
هل كانت سارة مكيافيلية في تلك اللحظة فقط ؟
متأكدة بأنك لن تخبرني عن ذلك ، وستغفر لها ، ولن تهتز صورتها في ذاتك . .
أتذكر ليلة زفافنا ، ، توحد كونان ، وكانت تلك البداية . .
ناصر حبيبي ، أنت حبيب سارة !
سارة تحيا ثورتها على جذورها الجبلية وحريصة ان تنجح هذه الثورة
كثيرا ً سارة ما تردد علي : اشك بأنك اشتراكية .
ناصر عندما تقترب مني ،تمسح شعري . تتجاهل انتظار شفتي ، تقبلني على جبيني ، لأنك تخاف انهيار حلم يسكن أحشائي ، وتهرب ,وأعلم الى أين .
بيني وبينك اتسع الفنن الذي تنمو عليه سلاف وغطى الافنان ا لآخرى . سلاف تلك المتآمرة الصغيرة التي لا تريديني أن اتأمل الاناث حولي وحولك . وتبعد عيني عنك ! ،
هل ظلمتني سلاف ؟ .لا هي فقط اطفات قناديل لهفة الأنثى لحبيبها ، وأشعلت قناديل احلام الأم لها . الأم التي كتبت أحلام يانعة نادي صغار في الحي ، لقاء أمهات سكن وأطفالهن بيوت الأودية ،سلسلة قصص سلاف وأمها للأطفال ، ومساعدة اطفال .
ناصر توارت العاشقة ، ولم تعد تبحث في عيني سارة عنك ، ولكن بقي اشتياق جيدها إلى مطر قبلاتك . مررت يدي على جبينه ،وضعت راسي على صدره ، اختبأت فيه ، سمعت صوت أنثوي رخيم يشبه ، لا ..لا يشبه صوت ...يسافر إلى البعيد .